الغواية والإغراء

اختراقات الغواية والإغراء

  • اختراقات الغواية والإغراء

اخرى قبل 6 سنة

اختراقات الغواية والإغراء

يفهم الإسرائيليون أن “اختراقات" من دون مقابل، ليست بالأحرى اختراقات. إنها تكشف عن قدرة “الآخر” على الغواية والإغراء.

أيام كانت الهزائم هي الرد الطبيعي على الشعاراتية الصاخبة، كان من الصعب على الكثير من الناس أن يفهموا السبب. فالصخب كلما رفع عقيرة “العنتريات”، بدا فارغا أكثر. وكان ذلك كافيا لكي يمنح “العدو” فرصة فسيحة لكي يتأمل في كل التفاصيل، وأن يطلع على كل الثغرات، وأن يرى الطبل الأجوف كم كان أجوفَ.

دافعٌ أمنيٌ محض هو الذي كان يحث إسرائيل على التدقيق، لئلا يكون هذا البلد الصغير، محدود القدرات البشرية، نسي شيئا قد يؤدي إلى تدميره. أما نحن فقد كنا ننام على ريش النعام، مطمئنين تماما إلى أن شعاراتنا وقناعاتنا المسبقة، كفيلة وحدها بردم الهوة بين الواقع والأحلام. فهُزمنا، ليس مرة واحدة، بل عدة مرات. وظل الفلسطينيون الذين شُرّدوا من منازلهم يلوّحون بالمفاتيح، أملا في العودة.

أغريناهم نحن، بما لم نكن قادرين عليه، أيام كانت الأسس العقائدية التي نقف عليها هشة وعاجزة. اليوم تحطمت الشعارات كما يتحطم قارب عتيق تلاطمت به الأمواج. ولم يبق منها إلا القليل من الأخشاب التي ظل يتعلق بها من لم يدرك أسباب الهزيمة بعد.

المسؤولون الإسرائيليون يتباكون من أجل إقامة “علاقات” مع الدول العربية، ويعتبرون كل خطوة في هذا الاتجاه “اختراقا”. وهذا شيء مفيد بالأحرى. إنه دلالة على إدراك متزايد باقتصادية الحاجة إلى القبول بإسرائيل كـ”جزء طبيعي” من المنطقة. هنا، إنما نحن من يمتلك مفتاح الواقع والإمكانيات! فكأي نمط آخر من أنماط “العلاقات”، فإنه ليس طريقا من اتجاه واحد.

إذا كانت إسرائيل تمتلك قدرات تكنولوجية من أي نوع، فسوقها “الطبيعي” ليس أميركا ولا أوروبا

البداهة نفسها تقول: أن تطلب شيئا لا بد أن تُعطي شيئا في المقابل. ولئن كان المسؤولون الإسرائيليون قد حققوا لأنفسهم ما اعتبروه “اختراقات”، فإن السؤال الذي ظل يواجههم هو: ما الذي سنعطيه في المقابل؟

يفهم الإسرائيليون أن “اختراقات” من دون مقابل، ليست بالأحرى اختراقات. إنها تكشف عن قدرة “الآخر” على الغواية والإغراء. يفهم الإسرائيليون، وجدير بهم أن يفهموا، أنه ما من علاقة مع الدول العربية يمكن أن تعطيهم شيئا مما يتنازعون فيه مع الفلسطينيين.

الأزمة في المنطقة ليست أزمة علاقات عامة. إنها أزمة صراع مع شعب يطالب بحقوقه المشروعة، ويستند في هذه الحقوق إلى أسانيد أكثر عنادا من الصخر. وليست مقررات الشرعية الدولية إلا الجزء الظاهر فحسب من جبل الجليد. الجبل الذي تحت سطح الماء، هو الخمسة ملايين فلسطيني الذين يعيشون في الداخل والجوار. وهؤلاء لن يختفوا من الوجود عندما يقوم أي مسؤول إسرائيلي بحل مشكلة “العلاقات العامة” مع أي دولة عربية. نحن نملك”المفتاح” الذي يجعل التعايش تعايشا.

إسرائيل قد تستطيع أن تستمر “عدوا”، و”الأزمة” قد تستمر لقرن آخر. إلا أن ذلك لن يحل مشكلة حاجتها الخاصة بأن تكون “جزءا طبيعيا” من المنطقة. إسرائيل (بأي مقياس جغرافي تشاء) بلد صغير المساحة، محدود السكان، ومحدود القدرات. وإذا ظل في حالة نزاع، فإن الأزمات الداخلية المقبلة سوف تزداد عمقا باستمرار.

المسؤولون الإسرائيليون يتباكون من أجل إقامة "علاقات" مع الدول العربية، ويعتبرون كل خطوة في هذا الاتجاه "اختراقا"

الحاجة إلى التعايش هي اليوم حاجة “وجودية” أكثر مما كانت في أي وقت بالنسبة لإسرائيل. ولكن هناك ثمنا يتعين أن يُدفع. في المقابل، فإن الأمم الكبيرة الراسخة، والتي لا شيء يهدد قدرتها على البقاء والتطور، تستطيع أن تستوعب الآخر، وتغريه بما يحتاج إليه، لتأخذ منه ما يستوجب أن يتنازل عنه.

“العلاقات العامة” مفيدة لنا من هذه الناحية، أكثر مما هي مفيدة لمن ينظر إليها على أنها “اختراقات” ويتردد في دفع الثمن. إذا كانت إسرائيل تمتلك قدرات تكنولوجية من أي نوع، فسوقها “الطبيعي” ليس أميركا ولا أوروبا.

هاتان القارتان لا تشتريان إلا القليل من إسرائيل، وإلا ما يكاد يوازي ما تحصل عليه من مساعدات. حتى لتبدو التعاقدات مع الصناعات الإسرائيلية وكأنها مساعدات أيضا. إذا كانت “السوق” سبيلا من سبل البقاء، وإذا أرادت إسرائيل أن ترى في المنطقة “سوقها الطبيعية”، فلا بد أن تدرك أن “اختراقاتها” لا تكفي، وإنها أكثر هزالا من أن تكون بديلا لتسوية عادلة.

وهنا، فنحن من يملك المفتاح. إذا كان الحق بيّنا، فالأمم الراسخة لا تخاف من قوله، ولا من كشف الطريق إليه. لسنا ضعفاء إلى ذلك الحد. نستطيع العيش من دون إسرائيل. ولكن العكس غير صحيح. وهذا فرق قوة كبير جدا. وإسرائيل تفهمه.

علي الصراف

كاتب عراقي

 

التعليقات على خبر: اختراقات الغواية والإغراء

حمل التطبيق الأن